فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون وعيدًا بما له عند الله من العقاب.
الثاني: أريد به تكذيب المؤمنين الذي يصدقون ما أنزل الله من كتاب.
واختلف هل حد النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الإِفك على قولين:
أحدهما: أنه لم يحدّ أحدًا منهم لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو بينة ولم يتعبدنا الله أن نقيمها بإخباره عنها كما لم يتعبدنا بقتل المنافقين وإن أخبر بكفرهم.
والقول الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم حد في الإِفك حسان بن ثابت وعبد الله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت حجش وكانوا ممن أفصح بالفاحشة رواه عروة بن الزبير وابن المسيب عن عائشة رضي الله عنها فقال بعض شعراء المسلمين:
لقد ذاق حسان الذي كان أهله ** وحمنةُ إذ قالا هجيرًا ومسطح

وابن سلول ذاق في الحدّ خزيه ** كما خاض في إفك من القول يفصح

تعاطوْا برجم الغيب زوج نبيّهم ** وسخطة ذي العرش العظيم فأبرحوا

وآذواْ رسول الله فيها فجللوا ** مخازي تبقى عمموها وفضحواْ

فصبت عليهم محصدات كأنها ** شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح

حكى مسروق أن حسان استأذن على عائشة فقلت أتأذنين له فقالت: أو ليس قد أصابه عذاب عظيم. فمن ذهب إلى أنهم حدوا زعم أنها أرادت بالعذاب بالعظيم الحد، ومن ذهب إلى أنهم لم يحدّوا زعم أنها أرادت بالعذاب العظيم ذهاب بصره، قاله سفيان. قال حسان بن ثابت يعتذر من الإفك:
حَصَانٌ رزانٌ ما تُزَنّ بِرِيبَةٍ ** وتُصْبِحُ غَرْثَى من لُحُومِ الغَوَافِلِ

فإن كنتُ قد قلتُ الذي بُلِّغْتُم ** فلا رَفَعَتْ سَوْطِي إليَّ أنامِلِي

فكيفَ ووُدِّي ما حَيِيتُ ونُصْرَتِي ** لآلِ رسُولِ اللَّهِ زَينِ المَحَافِلِ

قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} فيه وجهان:
أحدهما: هو أن تتحدث به وتلقيه بين الناس حتى ينتشر.
الثاني: أن يتلقاه بالقبول إذا حدث به ولا ينكره. وحكى ابن أبي مليكة أنه سمع عائشة تقرأ إذ تلِقونه بكسر اللام مخففة وفي تأويل هذه القراءة وجهان:
أحدهما: ترددونه، قاله اليزيدي.
الثاني: تسرعون في الكذب وغيره، ومنه قول الراجز:
جَاءَتْ به عنسٌ من الشام تَلِقْ

أي تسرع.. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)}.
هذا عتاب من الله تعالى بليغ ذكر أَن حالتهم التي وقع فيها جميعهم من تعاطيهم الحديث وإن لم يكن المخبر ولا المخبر مصدقين، ولكن نفس التعاطي والتلقي من لسان إلى لسان والإفاضة في الحديث هو الذي وقع العتاب فيه، وقرأ محمد بن السميفع {إذ تُلْقُونه} بضم التاء وسكون اللام وضم القاف من لإلقاء، وهذه قراءة بينة وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود {إذ تتلقونه} بضم التاء من التلقي بتاءين، وقرأ جمهور السبعة {إذ تلقونه} بحذف التاء الواحدة وإظهار الذال دون إدغام وهو ايضًا من التلقي، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي {أتلقونه} بإدغام الذال في التاء، وقرأ ابن كثير {إذ تلقونه} بإظهار الذال وإدغام التاء في التاء وهذه قراءة قلقة لأنها تقتضي اجتماع ساكنين وليس كالإدغام في قراءة من قرأ {فلا تناجوا} {ولا تنابزوا} لأن لدونة الألف الساكنة وكونها حرف لين حسنت هنالك ما لا يحسن مع سكون الدال، وقرأ ابن يعمر وعائشة رضي الله عنها وهي أعلم الناس بهذا الأمر {إذ تَلِقُونه} بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف، ومعنى هذه القراءة من قول العرب ولق الرجل ولقًا إذا كذب قال ابن سيده في المحكم قرئ {إذ تلقونه} وحكى أَهل اللغة أَنها من ولق إذا كذب فجاؤوا بالمعتدي شاهدًا على غير المعتدي وعندي أنه أراد إذ تلقون فيه فحذف حرف الجر ووصل بالضمير، وحكى الطبري وغيره أَن هذه اللفظة مأخوذة من الولق الذي هو إسراعك بالشيء بعد الشيء كعدو في إثر عدو وكلام في إثر كلام يقال ولق في سيره إذا أسرع ومنه قول الشاعر:
جاءت به عنس من الشام تلق

وقوله تعالى: {وتقولون بأفواهكم} مبالغة وإلزام وتأكيد.
والضمير في قوله: {وتحسبونه} للحديث والخوض فيه والإذاعة له، وقوله تعالى: {ولولا إذ سمعتموه} إلى {حكيم} عتاب لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه عليه السلام وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها {بهتان} وحقيقة البهتان أَن يقال في الإنسان ما ليس فيه والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه. ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة و{وأَن} مفعول من أَجله بتقدير كراهية أن ونحوه، وقوله: {إن كنتم مؤمنين} توقيف وتأكيد كما تقول ينبغي لك أن تفعل كذا وكذا إن كنت رجلًا وسائر الآية بين و{عليم حكيم} صفتان تقتضيهما الآية. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

ثم ذكر القاذفين فقال: {ولولا فَضلُ اللهِ عليكُم ورَحمَته} أي: لولا ما منَّ الله به عليكم {لمسَّكم} أي: لأصابكم {فيما أفضتم} أي: أخذتم وخضتم {فيه} من الكذب والقذف {عذاب عظيم} في الدنيا والآخرة.
ثم ذكر الوقت الذي لولا فضله لأصابهم فيه العذاب فقال: {إذ تَلقَّونَهُ} وكان الرجل منهم يلقى الرجل فيقول: بلغني كذا، فيتلقاه بعضهم من بعض.
وقرأ عمر بن الخطاب: {إذ تُلْقونه} بتاء واحدة خفيفة مرفوعة وإسكان اللام وقاف منقوطة بنقطتين مرفوعة خفيفة.
وقرأ معاوية وابن السميفع مثله، إلا أنهما فتحا التاء والقاف.
وقرأ ابن مسعود {تَتَلَقَّونه} بتاءين مفتوحتين مع نصب اللام وتشديد القاف.
وقرأ أبي بن كعب، وعائشة، ومجاهد، وأبو حيوة: {تَلِقُونه} بتاء واحدة خفيفة مفتوحة وكسر اللام ورفع القاف.
وقال الزجاج: تُلْقونه يلقيه بعضكم إلى بعض وتلقونه؛ ومعناه: إذ تسرعون بالكذب، يقال: ولق يلق: إذا أسرع في الكذب وغيره، قال الشاعر:
جاءَتْ به عَنْسٌ من الشَّامْ تلق

أي: تسرع، وقال ابن قتيبة: {تَلَقَّوْنَهُ} أي: تقبلونه، ومن قرأ: {تَلِقونَهُ} أخذه من الولق، وهو الكذب.
قوله تعالى: {وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم} أي: من غير أن تعلموا أنه حق، وتحسبونه، يعني ذلك القذف {هَينًا} أي: سهلا لا إثم فيه، وهو عند الله عظيم في الوزر، ثم زاد عليهم في الإنكار فقال: {ولولا إذ سَمِعتُمُوهُ قُلتُم مَا يَكُونُ لنا} أي: ما يحل وما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا سبحانك، وهو يحتمل التنزيه والتعجب.
وروت عائشة أن امرأة أبي أيوب الأنصاري قالت له: ألم تسمع ما يتحدث الناس؟ فقال: {ما يكونُ لنا أن نَتَكَلَم بهذا} الآية فنزلت الآية.
وقد روينا آنفا أن أمه ذكرت له ذلك، فنزلت الآية المتقدمة.
وروي عن سعيد بن جبير: أن سعد بن معاذ لما سمع ذلك قال: سبحانك هذا بهتان عظيم.
فقيل للناس: هلا قلتم كما قال سعد.
قوله تعالى: {يَعِظكمُ اللهُ} أي: ينهاكم الله أن تعودوا لمثله أي: إلى مثله إن كنتم مؤمنين، لأن من شرط الإيمان ترك قذف المحصنة، {ويُبيِنُ اللهُ لَكمُ الآياتِ} في الأمر والنهى. اهـ.

.قال القرطبي:

الحادية عشرة: قوله تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}.
{فَضْلُ} رفع بالابتداء عند سيبويه، والخبر محذوف لا تظهره العرب.
وحذف جواب {لولا} لأنه قد ذُكر مثله بعدُ؛ قال الله عز وجل: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} لمسّكم؛ أي بسبب ما قلتم في عائشة عذابٌ عظيم في الدنيا والآخرة.
وهذا عتاب من الله تعالى بليغ، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائبًا.
والإفاضة: الأخذ في الحديث؛ وهو الذي وقع عليه العتاب؛ يقال: أفاض القوم في الحديث أي أخذوا فيه.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} قراءة محمد بن السَّمَيْقَع بضم التاء وسكون اللام وضم القاف؛ من الإلقاء، وهذه قراءة بيّنة.
وقرأ أبَيّ وابن مسعود {إذ تتلقّونه} من التّلَقّي، بتاءين.
وقرأ جمهور السبعة بحرف التاء الواحدة وإظهار الذال دون إدغام؛ وهذا أيضًا من التلقي.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائيّ بإدغام الذال في التاء.
وقرأ ابن كَثير بإظهار الذال وإدغام التاء في التاء؛ وهذه قراءة قَلِقة؛ لأنها تقتضي اجتماع ساكنين، وليست كالإدغام في قراءة من قرأ {فلا تناجَوْا} {ولا تنابزوا} لأن دونه الألف الساكنة، وكونها حرفَ لِين حسنت هنالك ما لا تحسن مع سكون الذال.
وقرأ ابن يَعْمَر وعائشة رضي الله عنهما وهم أعلم الناس بهذا الأمر {إذ تَلِقُونه} بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف؛ ومعنى هذه القراءة من قول العرب: وَلَق الرجل يَلِق وَلْقًا إذا كذب واستمر عليه؛ فجاؤوا بالمتعدّي شاهدًا على غير المتعدّي.
قال ابن عطية: وعندي أنه أراد إذ تلقون فيه؛ فحذف حرف الجر فاتصل الضمير.
وقال الخليل وأبو عمرو: أصل الوَلْق الإسراع؛ يقال: جاءت الإبل تَلِق؛ أي تسرع.
قال:
لما رأوا جيشًا عليهم قد طرق ** جاؤوا بأسراب من الشأم وَلِقْ

إن الحُصَيْن زَلِق وزُمَّلِق ** جاءت به عَنْس من الشأمِ تَلِقْ

يقال: رجل زَلِق وزُمَلِق؛ مثال هُدَبِد، وزُمَالِق وزُمّلِق بتشديد الميم وهو الذي ينزل قبل أن يجامع؛ قال الراجز:
إنّ الحُصين زَلِق وزُمَّلِق ** والوَلْق أيضًا أخفّ الطعن

وقد وَلَقه يَلِقه وَلْقًا.
يقال: وَلَقه بالسيف وَلَقات، أي ضربات؛ فهو مشترك.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ} مبالغة وإلزام وتأكيد.
والضمير في {تَحْسَبُونَهُ} عائد على الحديث والخوض فيه والإذاعة له.
و{هَيِّنًا} أي شيئًا يسيرًا لا يلحقكم فيه إثم.
{وَهُوَ عِندَ الله} في الوزر {عَظِيمٌ}.
وهذا مثل قوله عليه السلام في حديث القَبْرَين: «إنهما ليُعَذَّبان وما يُعَذَّبان في كبير» أي بالنسبة إليكم.
الرابعة عشرة: قوله تعالى: {ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} عتاب لجميع المؤمنين؛ أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل، وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيّه عليه الصلاة والسلام، وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان؛ وحقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغِيبة أن يقال في الإنسان ما فيه.
وهذا المعنى قد جاء في صحيح الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة.
و{أنْ} مفعول من أجله، بتقدير: كراهية أن، ونحوه.
الخامسة عشرة: قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} توقيف وتوكيد؛ كما تقول: ينبغي لك أن تفعل كذا وكذا إن كنت رجلًا.
السادسة عشرة: قوله تعالى: {يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَدًا} يعني في عائشة؛ لأن مثله لا يكون إلا نظير القول في المقُول عنه بعينه، أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لما في ذلك من إذاية رسول الله صلى الله عليه وسلم في عِرْضه وأهله؛ وذلك كفر من فاعله.
السابعة عشرة: قال هشام بن عمار سمعت مالكًا يقول: من سَبّ أبا بكر وعمر أدّب، ومن سبّ عائشة قُتل؛ لأن الله تعالى يقول: {يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}؛ فمن سَبّ عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قُتل.
قال ابن العربيّ: قال أصحاب الشافعيّ من سبّ عائشة رضي الله عنها أُدّب كما في سائر المؤمنين، وليس قوله: {إن كنتم مؤمنين} في عائشة لأن ذلك كفر، وإنما هو كما قال عليه السلام: «لا يؤمِن من لا يأمن جارُه بوائَقه» ولو كان سلب الإيمَان في سبّ من سبّ عائشة حقيقة لكان سلبه في قوله: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» حقيقة.
قلنا: ليس كما زعمتم؛ فإن أهل الإفك رَمَوْا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله تعالى فكل من سبها بما برأها الله منه مكذّب لله، ومن كذّب الله فهو كافر؛ فهذا طريق قول مالك، وهي سبيل لائحة لأهل البصائر.
ولو أن رجلًا سبّ عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب. اهـ.